الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
إذن: فالجمهرة لا تُبدي رأيًا، ولا تصل إلى صواب.يقول الحق سبحانه للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46].فبَحْث مثل هذا الأمر يحتاج إلى فرديْن يتبادلان النظر والفِكْر والدليل ويتقصيَّان المسألة، فإنْ تغلّب أحدهما على الآخر كان الأمر بينهما دون ثالث يمكن أنْ يشمتَ في المغلوب، أو يبحثه فرد واحد بينه وبين نفسه فينظر في شخص رسول الله، وما هو عليه من أدب وخُلق، وكيف يكون مع هذا مجنونًا؟ وهل رأينا عليه أمارات الجنون؟ والذين قالوا عنه: ساحر لماذا لم يسحرهم كما سحر التابعين له؟إذن: لو أدار الشخص الواحد هذه الحقائق على ذِهْنه، واستعرض الآراء المختلفة لاهتدى وحده إلى الصواب، فالاعتزال أمر مطلوب إنْ وجد الإنسان البيئة غير صالحة لنقاش الباطل مع الحق لا نُؤصِّل الجدل والعناد في نفس الخَصْم. لذلك يقول تعالى: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} [النساء: 97]. أي: كانت الفرصة أمامكم لتتركوا هذه البُقْعة إلى غيرها من أرض الله الواسعة، وكأن الحق تبارك وتعالى يُلفت نظرنا إلى أن الأرض كلها أرض الله، فأرض الله الواسعة ليست هي مصر أو سوريا أو ألمانيا، بل الأرض كلها بلا حواجز هي أرض الله، فمَنْ ضاق به مكانٌ ذهب إلى غيره لا يمنعه مانع، وهل يوجد هذا الآن؟ هل تستطيع أن تخترق هذه الحواجز ودونها نظم وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان. لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10]. أي: الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام وهذا من المبادىء التي جعلها الخالق سبحانه للإنسانية، فلما استحدثَ الإنسانُ الحواجز والحدود، وأقام الأسوار والأسلاك ومنع الأنام من الحركة في أرض الله نشأ في الكون فساد كبير، فإنْ ضاق بك موضع لا تجد بديلًا عنه في غيره، وإنْ عِشْتَ في بيئة غير مستقيمة التكوين كتب عليك أنْ تشقى بها طوال حياتك. وقلنا: إن هذه الحدود وتلك الحواجز أفرزتْ أرضًا بلا رجال، ورجالًا بلا أرض، ولو تكاملتْ هذه الطاقات لا ستقامتْ الدنيا.ومسألة الاعتزال هذه، أو الهجرة من أرض الباطل، أو من بيئة لا ينتصر فيها الحق وردتْ في نصوص عِدَّة بالنسبة لسيدنا إبراهيم عليه السلام منها قوله تعالى: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يانار كُونِي بَرْدًا وسلاما على إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 6871]. فترك إبراهيم الأرض التي استعصتْ على منهج الله إلى أرض أخرى، وهاجر بدعوته إلى بيئة صالحة لها من أرض الشام. نعود إلى اعتزال إبراهيم عليه السلام للقوم، لا لطلب الرزق وسَعة العيش، بل الاعتزال من أجل الله وفي سبيل مبدأ إيماني يدعو إليه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48] وأول ما نلحظ أن في هذه النص عدولًا، حيث كان الكلام عن العبادة: {يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} [مريم: 42]، {يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} [مريم: 44]. والقياس يقتضي أن يقول: وأعتزلكم وما تعبدون.. وأدعو ربي. أي: أعبده، إلا أنه عدل عن العبادة هنا وقال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ} [مريم: 48] فلماذا؟قالوا: لأن الإنسان لا ينصرف عن ربه وعن وحدانيته تعالى إلا حين يستغني، فإنْ ألجأتْهُ الأحداث واضطرته الظروف لا يجد ملجأ إلا إلى الله فيدعو. إذن: فالعبادة ستصل قَطْعًا إلى الدعاء، وما دُمْتَ ستضطر إلى الدعاء فليكُنْ من بداية الأمر: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48].إذن: استخدم الدعاء بدل العبادة؛ لأنني أعبد الله في الرخاء، فإنْ حدثتْ لي شِدَّةٌ لا أجد إلا هو أدعوه.وقوله: {وَأَدْعُو رَبِّي عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48] أي: عسى ألاَّ أكون شقيًا بسبب دعائي لربي؛ لأنه تبارك وتعالى لا يُشقي مَنْ عبده ودعاه، فإنْ أردتَ المقابل فَقُلْ: الشقيُّ مَنْ لا يعبد الله ولا يدعوه.ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ}.قوله: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: 49] لم يذكر هنا إسماعيل؛ لأن إسحق جاء جزاءً من الله لإبراهيم على صبره في مسألة ذَبْح إسماعيل، وما حدث من تفويضهما الأمر لله تعالى، والتسليم لقضائه وقَدرهِ، كما قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 103] أي: إبراهيم وإسماعيل {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 103107].ولم يقتصر الأمر على الفداء، بل {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112] فلما امتثل لأمر الله في الولد الأول وهبنا له الثاني. وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 72]. كأن الحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية، ومبالغة في الإكرام.ثم يمتنُّ الله على الجميع بأن يجعلَهم أنبياء {وَكُلًا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49] فليس الامتنان بأنْ وهب له إسحاق ومن بعده يعقوب، بل بأنْ جعلهم أنبياء، وهذه جاءت بشرى لإبراهيم، وكان حظّه أنْ يرعى دعوة الله حيًا، ويطمع أنْ تكونَ في ذريته من بعده، وكانت هذه هي فكرة زكريا عليه السلام فكلهم يحرصون على الذرية لا للعزوة والتكاثر وميراث عَرَضِ الدنيا، بل لحمل منهج الله وامتداد الدعوة فيهم والقيام بواجبها.انظر إلى قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] أي: حَمَّله تشريعات فقام بها على أتمِّ وجه وأدّاها على وجهها الصحيح، فلما علم الله منه عِشْقه للتكليف أتمها عليه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] فتثور مسألة الإمامة في نفس إبراهيم، ويطمع أنْ تكونَ في ذريته من بعده فيقول: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] لذلك يُعدِّل الحق سبحانه فكرة إبراهيم عن الإمامة، ويضع المبدأ العام لها، فهي ليستْ ميراثًا، إنها تكليف له شروط.{قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124]. فالظالمون لا يصلحون لهذه المهمة. فوعي إبراهيم عليه السلام هذا الدرس، وأخذ هذا المبدأ، وأراد أنْ يحتاط به في سؤاله لربه بعد ذلك، فلما دعا ربه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126] فاحتاط لأنْ يكونَ في بلده ظالمون، فقال: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 126].لكن جاء قياس إبراهيم هنا في غير محله، فعدَّل الله له المسألة؛ لأنه يتكلم في أمر خاص بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمنَ والكافر، والطائعَ والعاصي، فقد ضمن الله الرزق للجميع فلا داعي للاحتياط في عطاء الربوبية؛ لذلك أجابه ربه: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} [البقرة: 126].إذن: فهناك فارق بين العطاءين: عطاء الربوبية وعطاء الألوهية، والإمامية في منهج الله، فعطاء الربوبية رِزْق يُسَاق للجميع وخاضع للأسباب، فمَنْ أخذ بأسبابه نال منه مَا يريد، أما عطاء الألوهية فتكليف وطاعة وعبادة.يقول تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].ثم يقول الحق سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا}.قوله تعالى: {مِّن رَّحْمَتِنَا} [مريم: 50] المراد بالرحمة النبوة؛ لذلك لما قال أهل العظمة والجاه المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وكأنهم استقلُّوا رسول الله أن يكون في هذه المنزلة، رَدَّ عليهم القرآن: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32].إذن: فعطاؤه تعالى في النبوات رحمةٌ أشاعها الله في ذرية إبراهيم.وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50] أي: كلمة صدق وحق ثابت مطابق للواقع، ولسان الصِّدْق يعني مَدْحًا في موضعه، وثناءً بحق لا مجاملةَ فيه، والثناء يكون باللسان، وها نحن نذكر هذا الرْكب من الأنبياء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بالثناء الحسَن والسيرة الطيبة، ونأخذهم قدوة، وهذا كله من لسان الصدق، ويبدو أنها دعوةُ إبراهيم حين قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بالصالحين واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 8384]. اهـ.
|